سورة فاطر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


الفطر: الشقّ عن الشيء، يقال: فطرته فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير إذا طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء: تشقق، والفطر الابتداء والاختراع، وهو: المراد هنا، والمعنى: {الحمد للَّهِ} مبدع {السموات والأرض}، ومخترعهما، والمقصود من هذا: أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة. قرأ الجمهور: {فاطر} على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري، والضحاك: {فطر} على صيغة الفعل الماضي، فعلى القراءة الأولى هو نعت لله؛ لأن إضافته محضة لكونه بمعنى: الماضي، وإن كانت غير محضة كان بدلاً، ومثله: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} يجوز فيه الوجهان، وانتصاب رسلاً بفعل مضمر على الوجه الأوّل، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى: الماضي لا يعمل، وجوّز الكسائي عمله. وأما على الوجه الثاني، فهو منصوب بجاعل، والرسل من الملائكة هم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. وقرأ الحسن: {جاعل} بالرفع، وقرأ خليل بن نشيط، ويحيى بن يعمر: {جعل} على صيغة الماضي. وقرأ الحسن، وحميد: {رسلاً} بسكون السين، وهي لغة تميم {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفة ل {رسلاً}، والأجنحة جمع جناح {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} صفة لأجنحة، وقد تقدّم الكلام في مثنى، وثلاث، ورباع في النساء. قال قتادة: بعضهم له جنحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. قال يحيى بن سلام: يرسلهم الله إلى الأنبياء.
وقال السدّي: إلى العباد بنعمه، أو نقمه، وجملة {يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء} مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة، والمعنى: أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، وهو: قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء، والزجاج. وقيل: إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة، فقال الزهري، وابن جريج: إنها حسن الصوت.
وقال قتادة: الملاحة في العينين، والحسن في الأنف، والحلاوة في الفم. وقيل: الوجه الحسن. وقيل: الخط الحسن. وقيل: الشعر الجعد. وقيل: العقل والتمييز. وقيل: العلوم، والصنائع، ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة. وجملة: {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء.
{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي: ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه {وَمَا يُمْسِكْ} من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه. وقيل: المعنى: إن الرسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله. وقيل: هو الدعاء. وقيل: التوبة. وقيل: التوفيق، والهداية. ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى: كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته، فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه، وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه، ولا منعم غيره.
ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعدّ ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر: هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها، وطلب المزيد منها {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله}: {من} زائدة، وخالق مبتدأ، وغير الله صفة له. قال الزجاج: ورفع غير على معنى هل خالق غير الله؛ لأن {من} زيادة مؤكدة، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ. قرأ الجمهور برفع: {غير}، وقرأ حمزة، والكسائي بخفضها، وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء، وجملة: {يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} خبر المبتدأ. أو جملة مستأنفة، أو صفة أخرى لخالق، وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، وغير ذلك، وجملة: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام {فأنى تُؤْفَكُونَ} من الأفك بالفتح، وهو الصرف، يقال: ما أفكك عن كذا، أي: ما صرفك، أي: فكيف تصرفون. وقيل: هو مأخوذ من الإفك بالكسر، وهو الكذب؛ لأنه مصروف عن الصدق. قال الزجاج، أي: من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله، والبعث، وأنتم مقرّون بأن الله خلقكم ورزقكم. ثم عزّى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} ليتأسى بمن قبله من الأنبياء، ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى غيره، فيجازي كلاً بما يستحقه. قرأ الحسن، والأعرج، ويعقوب، وابن عامر، وأبو حيوة، وابن محيصن، وحميد، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف: {ترجع} بفتح الفوقية على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول. {ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: وعده بالبعث، والنشور، والحساب، والعقاب، والجنة، والنار، كما أشير إليه بقوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}. {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بزخرفها، ونعيمها. قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها، ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول: {يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} [الفجر: 24] {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} قرأ الجمهور بفتح الغين، أي: المبالغ في الغرور، وهو: الشيطان. قال ابن السكيت، وأبو حاتم: الغرور الشيطان، ويجوز: أن يكون مصدراً، واستبعده الزجاج، لأن غرر به متعدي، ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضرباً، إلاّ في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية: لا يغرنكم الشيطان بالله، فيقول لكم: إن الله يتجاوز عنكم، ويغفر لكم لفضلكم، أو لسعة رحمته لكم. وقرأ أبو حيوة، وأبو سماك، ومحمد بن السميفع بضم الغين، وهو: الباطل.
قال ابن السكيت: والغرور بالضم ما يغرّ من متاع الدنيا.
وقال الزجاج: يجوز: أن يكون الغرور جمع غار، مثل قاعد، وقعود. قيل: ويجوز أن يكون مصدر غرّه كاللزوم، والنهوك، وفيه ما تقدّم عن الزجاج من الاستبعاد.
ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان، فقال: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} أي: فعادوه بطاعة الله، ولا تطيعوه في معاصي الله. ثم بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم، فقال: {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} أي: إنما يدعو أشياعه، وأتباعه، والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار، ومحل الموصول في قوله: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} الرفع على الابتداء، و{لهم عذاب شديد} خبره، أو الرفع على البدل من فاعل {يكونوا}، أو النصب على البدل من {حزبه}، أو النعت له، أو إضمار فعل يدل على الذمّ، والجرّ على البدل من أصحاب، أو النعت له. والرفع على الابتداء أقوى هذه الوجوه، لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه، ذكر حال الفريقين من المطيعين له، والعاصين عليه، فالفريق الأوّل قال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، والفريق الآخر قال فيه: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح، ويعطيهم أجراً كبيراً، وهو: الجنة.
{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً} هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين، و{من} في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: ويدلّ عليه قوله: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} قال: وهذا كلام عربيّ ظريف لا يعرفه إلاّ القليل.
وقال الزجاج: تقديره كمن هداه، وقدّره غيرهما كمن لم يزين له، وهذا أولى لموافقته لفظاً، ومعنى، وقد وهم صاحب الكشاف، فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي. قال النحاس: والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى: أن الله عزّ وجلّ نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن شدّة الاغتمام بهم، والحزن عليهم كما قال: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] وجملة {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} مقرّرة لما قبلها، أي: يضلّ من يشاء أن يضله، ويهدي من يشاء أن يهديه {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} قرأ الجمهور بفتح الفوقية، والهاء مسنداً إلى النفس، فتكون من باب: لا أرينّك ها هنا. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأشهب بضم التاء، وكسر الهاء، ونصب {نفسك}، وانتصاب {حسرات} على أنه علة، أي: للحسرات، ويجوز: أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي عن سيبويه.
وقال المبرد: إنها تمييز.
والحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية، والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد.
وقد أخرج أبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما {فاطر السماوات والأرض} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: ابتدأتها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: {فَاطِرَ السموات} بديع السموات.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء} قال: الصوت الحسن.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} الآية قال: ما يفتح الله للناس من باب توبة {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا، وما أمسك من باب توبة {فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}، وهم لا يتوبون.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم في الآية قال: يقول: ليس لك من الأمر شيء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} قال: كل شيء في القرآن لهم مغفرة، وأجر كبير، ورزق كريم، فهو: الجنة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة، والحسن في قوله: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} قال: الشيطان زين لهم، هي والله الضلالات {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} أي: لا تحزن عليهم.


ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه، وعظيم قدرته، ليتفكروا في ذلك، وليعتبروا به، فقال: {والله الذى أَرْسَلَ الرياح} قرأ الجمهور: {الرياح}، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي {الريح} بالإفراد {فَتُثِيرُ سحابا} جاء بالمضارع بعد الماضي استحضاراً للصورة، لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين، ومعنى كونها: تثير السحاب أنها تزعجه من حيث هو {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ} قال أبو عبيدة: سبيله، فتسوقه، لأنه قال: {فتثير سحاباً}. قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع: الدلالة على التحقق. قال المبرد: ميت وميّت واحد، وقال: هذا قول البصريين، وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء
{فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض} أي: أحيينا بالمطر الأرض بإنبات ما ينبت فيها، وإن لم يتقدّم ذكر المطر، فالسحاب يدل عليه، أو أحيينا بالسحاب، لأنه سبب المطر {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بعد يبسها، استعار الإحياء للنبات، والموت لليبس {كَذَلِكَ النشور} أي: كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها، والنشور: البعث، من نشر الإنسان نشوراً، والكاف في محل رفع على الخيرية، أي: مثل إحياء موات الأرض إحياء الأموات، فكيف تنكرونه، وقد شاهدتم غير مرّة ما هو مثله وشبيه به؟
{مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} قال الفرّاء: معناه: من كان علم العزة لمن هي؟ فإنها الله جميعاً.
وقال قتادة: من كان يريد العزّة، فليتعزز بطاعة الله، فجعل معنى فللّه العزّة: الدعاء إلى طاعة من له العزّة، كما يقال: من أراد المال، فالمال لفلان، أي: فليطلبه من عنده.
وقال الزجاج: تقديره من كان يريد بعبادة الله العزّة، والعزّة له سبحانه، فإن الله عزّ وجلّ يعزّه في الدنيا والآخرة. وقيل: المراد بقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} المشركون، فإنهم كانوا يتعزّزون بعبادة الأصنام: كقوله: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} [مريم: 81]. وقيل المراد: الذين كانوا يتعزّزون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} [النساء: 139] الآية. {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} أي: فليطلبها منه لا من غيره، والظاهر في معنى الآية: أن من كان يريد العزّة، ويطلبها، فليطلبها من الله عزّ وجلّ: فللّه العزّة جميعاً، ليس لغيره منها شيء، فتشمل الآية كل من طلب العزّة، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار، وألهمم من أين تنال العزّة، ومن أيّ جهة تطلب؟
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} أي: إلى الله يصعد لا إلى غيره، ومعنى صعوده إليه: قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخصّ الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيباً من ذكر لله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة، وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد، أو بالتحميد، والتمجيد.
وقيل: المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا. وقيل: المراد بصعوده علم الله به، ومعنى {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما قال الحسن، وشهر بن حوشب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والضحاك، ووجهه: أنه لا يقبل الكلم الطيب إلاّ مع العمل الصالح. وقيل: إن فاعل {يرفعه} هو {الكلم الطيب}، ومفعوله {العمل الصالح}، ووجهه: أن العمل الصالح لا يقبل إلاّ مع التوحيد، والإيمان. وقيل: إن فاعل {يرفعه} ضمير يعود إلى الله عزّ وجلّ. والمعنى: أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل يحقق الكلام. وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزّة.
وقال قتادة: المعنى: أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه، أي: يقبله، فيكون قوله: {والعمل الصالح} على هذا مبتدأ خبره يرفعه، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه. قرأ الجمهور: {يصعد} من صعد الثلاثي. و{الكلم الطيب} بالرفع على الفاعلية. وقرأ علي، وابن مسعود: {يصعد} بضم حرف المضارعة من أصعد، و{لكلم الطيب} بالنصب على المفعولية، وقرأ الضحاك على البناء للمفعول، وقرأ الجمهور: {الكلم}، وقرأ أبو عبد الرحمن: {الكلام}، وقرأ الجمهور: {والعمل الصالح} بالرفع على العطف، أو على الابتدا ء. وقرأ ابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال. {والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} انتصاب {السيئات} على أنها صفة لمصدر محذوف: أي: يمكرون المكرات السيئات، وذلك لأن {مكر} لازم، ويجوز: أن يضمن يمكرون معنى: يكسبون، فتكون السيئات مفعولاً به. قال مجاهد، وقتادة: هم: أهل الرياء.
وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة.
وقال الكلبي: هم الذين يعملون السيئات في الدنيا.
وقال مقاتل: هم: المشركون، ومعنى {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}: لهم عذاب بالغ الغاية في الشدّة {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي: يبطل، ويهلك، ومنه {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12]. والمكر في الأصل: الخديعة، والاحتيال، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في تفسير مكرهم، وجملة: {يَبُورُ} خبر مكر أولئك.
ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على البعث، والنشور، فقال: {والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} أي: خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب.
وقال قتادة: يعني: آدم، والتقدير على هذا: خلق أباكم الأوّل، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أخرجها من ظهر آبائكم {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} أي: زوّج بعضكم ببعض، فالذكر زوج الأنثى، أو جعلكم أصنافاً ذكراناً وإناثاً {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أي: لا يكون حمل، ولا وضع إلاّ والله عالم به، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب} أي: ما يطول عمر أحد، ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب، أي: في اللوح المحفوظ.
قال الفرّاء: يريد آخر غير الأوّل، فكنى عنه بالضمير كأنه الأوّل: لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأوّل كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأوّل، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي: نصف آخر. قيل: إنما سمي معمراً باعتبار مصيره إليه. والمعنى: وما يمدّ في عمر أحد، ولا ينقص من عمر أحد، لكن لا على معنى: لا ينقص من عمره بعد كونه زائداً، بل على معنى: أنه لا يجعل من الابتداء ناقصاً إلاّ وهو في كتاب. قال سعيد بن جبير: وما يعمر من معمر إلاّ كتب عمره: كم هو سنة، كم هو شهراً، كم هو يوماً، كم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة، نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص من عمره سنة حتى يستوفي أجله، فما مضى من أجله، فهو: النقصان، وما يستقبل، فهو: الذي يعمره.
وقال قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. وقيل: المعنى: إن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع، ودونه إن عصى، فأيهما بلغ، فهو في كتاب، والضمير على هذا يرجع إلى معمر. وقيل: المعنى: وما يعمر من معمر إلى الهرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلاّ في كتاب، أي: بقضاء الله قاله الضحاك، واختاره النحاس. قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل، والأولى أن يقال: ظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره: هما بقضاء الله، وقدره لأسباب تقتضي التطويل، وأسباب تقتضي التقصير.
فمن أسباب التطويل: ما ورد في صلة الرّحم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك. ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عزّ وجلّ، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلاً سبعين سنة، فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان، والكلّ في كتاب مبين، فلا تخالف بين هذه الآية، وبين قوله سبحانه: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، ويؤيد هذا قوله سبحانه: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]، وقد قدّمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحاً وبياناً. قرأ الجمهور: {ينقص} مبنياً للمفعول. وقرأ يعقوب، وسلام، وروي عن أبي عمرو: {ينقص} مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور: {من عمره} بضمّ الميم. وقرأ الحسن، والأعرج، والزهري بسكونها، والإشارة بقوله: {إِنَّ ذلك} إلى ما سبق من الخلق، وما بعده {عَلَى الله يَسِيرٌ} لا يصعب عليه منه شيء، ولا يعزب عنه كثير، ولا قليل، ولا كبير، ولا صغير.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من بديع صنعه، وعجيب قدرته، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} فالمراد ب {البحران} العذب، والمالح، فالعذب الفرات الحلو، والأجاج المرّ، والمراد ب {سَائِغٌ شَرَابُهُ}: الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته. وقرأ عيسى بن عمر: {سيغ} بتشديد الياء، وروي تسكينها عنه. وقرأ طلحة، وأبو نهيك: {ملح} بفتح الميم {وَمِن كُلّ} منهما {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً}، وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} الظاهر أن المعنى: وتستخرجون منهما حلية تلبسونها.
وقال المبرّد: إنما تستخرج الحلية من المالح، وروي عن الزجاج: أنه قال: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، لا من كل واحد منهما على انفراده، ورجح النحاس قول المبرّد. ومعنى {تَلْبَسُونَهَا}: تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف، والدرع، ونحوهما {وَتَرَى الفلك فِيهِ} أي: في كل واحد من البحرين.
وقال النحاس: الضمير يعود إلى الماء المالح خاصة، ولولا ذلك لقال: فيهما {مَوَاخِرَ} يقال: مخرت السفينة تمخر: إذا شقت الماء. فالمعنى: وترى السفن في البحرين شواقّ للماء بعضها مقبلة، وبعضها مدبرة بريح واحدة، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة النحل، واللام في {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} متعلقة بما يدل عليه الكلام السابق: أي: فعل ذلك: لتبتغوا، أو بمواخر. قال مجاهد: ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدّة قريبة كما تقدّم في البقرة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ما أنعم عليكم به من ذلك. قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حقّ المؤمن والكافر، والكفر والإيمان، فكما لا يستوي البحران كذلك لا يستوي المؤمن والكافر، ولا الكفر والإيمان.
{يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل} أي: يضيف بعض أجزائهما إلى بعض، فيزيد في أحدهما، بالنقص في الآخر، وقد تقدّم تفسيره في آل عمران، وفي مواضع من الكتاب العزيز {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} قدّره الله لجريانهما، وهو: يوم القيامة. وقيل: هو المدّة التي يقطعان في مثلها الفلك، وهو سنة للشمس، وشهر للقمر. وقيل: المراد به جري الشمس في اليوم، والقمر في الليلة.
وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى الفاعل لهذه الأفعال، وهو: الله سبحانه، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره: {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} أي: هذا الذي من صنعته ما تقدّم: هو: الخالق المقدّر، والقادر المقتدر المالك للعالم، والمتصرّف فيه، ويجوز: أن يكون قوله: له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} أي: لا يقدرون عليه، ولا على خلقه، والقطمير: القشرة الرّقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، وتصير على النواة كاللفافة لها.
وقال المبرّد: هو: شقّ النواة.
وقال قتادة: هو: القمع الذي على رأس النواة. قال الجوهري: ويقال: هي: النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة.
ثم بيّن سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنم لا ينفعون ولا يضرّون، فقال: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} أي: إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لكونها جمادات لا تدرك شيئاً من المدركات {وَلَوْ سَمِعُواْ} على طريقة الفرض، والتقدير {مَا استجابوا لَكُمْ} لعجزهم عن ذلك. قال قتادة: المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل المعنى: لو جعلنا لهم سماعاً وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموهم إليه من الكفر {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي: يتبرّءون من عبادتكم لهم، ويقولون {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] ويجوز: أن يرجع: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} [الأعراف: 197] وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار، وهم: الملائكة، والجنّ، والشياطين. والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاً، وينكرون: أنهم أمروكم بعبادتهم {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: لا يخبرك مثل من هو خبير بالأشياء عالم بها، وهو: الله سبحانه، فإنه لا أحد أخبر بخلقه، وأقوالهم، وأفعالهم منه سبحانه، وهو الخبير بكنه الأمور، وحقائقها.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله إلاّ مات، ثم يرسل الله من تحت العرش منياً كمني الرجال، فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله {الله الذى أَرْسَلَ الرياح} الآية.
وأخرج أبو داود، والطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: «أما مررت بأرض مجدبة، ثم مررت بها مخصبة تهتزّ خضراء؟ قلت: بلى، قال: كذلك يحيي الله الموتى، وكذلك النشور».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال: إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله، وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، وتبارك الله، قبض عليهنّ ملك يضمهنّ تحت جناحه، ثم يصعد بهنّ إلى السماء، فلا يمرّ بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفر لقائلهنّ حتى يجيء بهنّ وجه الرحمن، ثم قرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} قال: أداء الفرائض، فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله، ولم يؤدّ فرائضه ردّ كلامه على عمله، وكان عمله أولى به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} الآية قال: يقول ليس أحد قضيت له طول العمر، والحياة إلاّ وهو بالغ ما قدّرت له من العمر وقد قضيت له ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر، والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له، فذلك قوله: {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب} يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو عوانة، وابن حبان، والطبراني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقرّ في الرحم بأربعين، أو بخمسة وأربعين ليلة، فيقول: أيّ ربّ أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله، ويكتبان، ثم يكتب عمله، ورزقه، وأجله، وأثره، ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص».
وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، والنسائي، وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أمّ حبيبة: اللهمّ أمتعني بزوجي النبيّ، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئاً قبل حله، أو يؤخر شيئاً، ولو كنت سألت الله: أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل» وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء، وأنه يعتلج هو والقضاء، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر، فلا معارضة بين الأدلة كما قدّمنا.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} قال: القطمير القشر، وفي لفظ: الجلد الذي يكون على ظهر النواة.


ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: {ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} أي: المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق، و{هُوَ الغنى} على الإطلاق {الحميد} أي: المستحقّ للحمد من عباده بإحسانه إليهم. ثم ذكر سبحانه نوعاً من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه، واستغناؤه عنهم، فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: إن يشأ يفنكم، ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه، ولا يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق، وعالم من العالم غير ما تعرفون {وَمَا ذلك} إلاّ ذهاب لكم، والإتيان بآخرين {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع، ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: نفس وازرة، فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر: تحمل. والمعنى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي: إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؛ لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكلّ من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث: «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن الذين سنّ السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى. {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا} قال الفرّاء: أي: نفس مثقلة، قال: وهذا يقع للمذكر، والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنساناً إلى حملها، وهو: ذنوبها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ} أي: من حملها {شَئ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي: ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئاً. ومعنى الآية: وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوّة من تلك الذنوب شيئاً، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها، وبين الداعية لها؟ وقرئ: {ذو قربى} على أن كان تامة، كقوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280].
وجملة {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، ومعنى {يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب}: أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه، وهو غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب} [يس: 11]. ومعنى {وَأَقَامُواْ الصلاة}: أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم.
{وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} التزكي: التطهر من أدناس الشرك، والفواحش، والمعنى: أن من تطهر بترك المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختصّ به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلاّ عليه لا على غيره. قرأ الجمهور: {ومن تزكى فإنما يتزكى} وقرأ أبو عمرو: {فإنما يزكى} بإدغام التاء في الزاي، وقرأ ابن مسعود، وطلحة: {ومن أزكى فإنما يزكى}. {وإلى الله المصير} لا إلى غيره، ذكر سبحانه أوّلاً: أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانياً: أن المذنب إن دعا غيره، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثاً: أن ثواب الطاعة مختصّ بفاعلها ليس لغيره منه شيء.
ثم ضرب مثلاً للمؤمن، والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأعمى} أي: المسلوب حاسة البصر {والبصير} الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن بالبصير {وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} أي: ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحقّ بالنور. قال الأخفش: و{لا} في قوله: {ولا النور}، {ولا الحرور} زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور، ولا الظلّ والحرور، والحرور شدّة حرّ الشمس. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلاّ مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل. وقيل: عكسه.
وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة.
وقال الفراء: السموم لا يكون إلاّ بالنهار، والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح.
وقال قطرب: الحرور الحرّ، والظلّ البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظلّ الذي لا حرّ فيه، ولا أذى، والحرّ الذي يؤذي. قيل: أراد الثواب والعقاب، وسمي الحرّ حروراً مبالغة في شدّة الحرّ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى.
وقال الكلبي: أراد بالظلّ الجنة، وبالحرور النار.
وقال عطاء: يعني: ظل الليل، وشمس النهار. قيل: وإنما جمع الظلمات، وأفرد النور لتعدّد فنون الباطل، واتحاد الحقّ.
ثم ذكر سبحانه تمثيلاً آخر للمؤمن، والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات}، فشبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات. وقيل: أراد تمثيل العلماء، والجهلة.
وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال، أي: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفقهم لطاعته {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور} يعني: الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي: كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قلبه، قرأ الجمهور بتنوين: {مسمع} وقطعه عن الإضافة. وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي، وعمرو بن ميمون بإضافته {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي: ما أنت إلاّ رسول منذر ليس عليك إلاّ الإنذار، والتبليغ، والهدى، والضلالة بيد الله عزّ وجلّ.
{إِنَّا أرسلناك بالحق} يجوز: أن يكون {بالحقّ} في محل نصب على الحال من الفاعل، أي: محقين، أو من المفعول، أي: محقاً، أو نعت لمصدر محذوف، أي: إرسالاً ملتبساً بالحقّ، أو هو متعلق ب {بشيراً}، أي: بشيراً بالوعد الحقّ، ونذيراً بالوعد الحقّ، والأولى: أن يكون نعتاً للمصدر المحذوف، ويكون معنى بشيراً: بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي: ما من أمة من الأمم الماضية إلاّ مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، واقتصر على ذكر النذير دون البشير، لأنه ألصق بالمقام.
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعزّاه، فقال: {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبياءهم {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي: بالمعجزات الواضحة، والدلالات الظاهرة {وبالزبر} أي: الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم {وبالكتاب المنير} كالتوراة، والإنجيل، قيل: الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع، وأحكام، {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة، ويشعر بعلة الأخذ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكيف كان نكيري عليهم، وعقوبتي لهم، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في: {نكير} وصلاً ولا وقفاً، وقد مضى بيان معنى هذا قريباً.
وقد أخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «ألا لا يجني جانٍ إلاّ على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده».
وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: أي، وربّ الكعبة، قال: أما أنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَئ} قال: يكون عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاً.

1 | 2